القدس ليست أورشليم
لقد كانت فلسطين ولا تزال ضحية التلاعب غير الأخلاقي بالتاريخ القديم وتزييف الحقائق -الدورالذي يلعبه الإعلام اليوم- فقد عمد كتاب التاريخ من الإستشراقيين الغربيين والعابثين من علماء الآثار خلال القرنين الماضيين بإدراج تعسفي لأماكن لا صلة لها بواقع فلسطين في ترجمة النصوص العبرية وتغييب البعض الآخر وذلك بهدف الترويج الزائف لأسطورة "أرض الميعاد". علماء الآثار أنفسهم الذين عجزوا رغم حملات التنقيب المحمومة في باطن الأرض منذ سبعين عاما عن العثور ولو على حجر واحد يؤكد ما جاء في النصوص (يكتب عالم الآثار الإسرائيلي هرتزوغ في 1998 "إن علماء الآثار الذين عملوا بحماسة منذ بدايات القرن الماضي بحثا عن مواد تؤكد ما جاء في العهد القديم، لم يجدوا أي شيء ولكن كلما ظهر شيء ما على السطح كلما تأكد لنا بوضوح أن الكثير من قصص العهد القديم ليست صحيحة").
في "القدس ليست أورشليم" يقدم الباحث والمفكر فاضل الربيعي مساهمته في تصحيح مغالطة ذكر التوراة لاسم القدس بهدف "تهويدها" وجعل "إسرائيل" الراهنة امتدادا معنويا ورمزيا لمملكة يهوذا. حيث أن مثل هذا الادعاء يتنافى مع الحقيقة التاريخية والتوصيف الجغرافي للمدينة والبلاد. مؤكدا أن هذا التصور لن يكون صادما لوجدان اليهود المتعصبين والتوراتيين والاستشراقين وحسب، بل ربما للوجدان الفلسطيني والعربي والإسلامي على حد سواء.
فالتوراة في نصها الأصلي لم تأت على ذكر فلسطين أو القدس، بل تكلمت منذ 500 ق.م. عن جبل قدس/قدش (بفتح القاف) وهو نفسه "جبل قدس المبارك" المعروف إلى اليوم في اليمن ويقع على 80 كم إلى الجنوب من تعز باتجاه عدن، ولا علاقة له باسم المدينة العربية التي جاء اسمها متأخرا مع الفتوحات الإسلامية. فالقدس ليست جبلا ولا هي على جبل. ونشأة جماعة "أمناء جبل الهيكل" دليل على وجود من هو على يقين بهذا الأمر من المتشددين اليهود.
وجبل قدس المذكور ليس هو أورشليم في التوراة. بل تمت الإشارة إلى قرية "بيت بوس" التي كانت "دار سلام"، الواقعة في الجنوب الغربي من صنعاء، وسقطت في قبضة الملك داود واتخذها الملك اليمني اليهودي يوسف بن زرعة المعروف بالحميري حصنا منيعا له وأعلن عودة دين اليهودية لليمن في عام 524م.
يوضح الباحث العراقي أن سائر النصوص التي تحدثت عن أورشليم وصفت المدينة وجغرافيتها الجبلية بدقة، حيث سلسلة الوديان والجبال المحيطة والمرتبطة بها، مطابقة لجغرافية اليمن كما جاء تأكيدها بشكل قاطع لدى الهمداني في "صفة جزيرة العرب".
"فهل من العدل الافتراض أن هذه الأماكن الجبيلة زالت عن الوجود، بينما يزعم الإسرائيليون اليوم، أن أسماء القرى الوارد ذكرها في التوراة لا تزال موجودة هناك منذ أكثر من ألفي عام؟" ص.24
وهذه النظرية ليست تصورا عاطفيا ترفض زحزحة فلسطين والفلسطينيين من التاريخ والجغرافيا بل دراسة بكل معنى الكلمة توجب إمعان الفكر وتحث العقل على طرح الأسئلة المنطقية، اعتمد فيها فاضل الربيعي، وهو المتخصص في الميثولوجيا ودراسات الكتاب المقدس واللغة العبرية، عل نصوص التوراة كسفر المكابيين وسفر صموئيل ومقارنتها ب"صفة جزيرة العرب" لأبو الحسن الهمداني، مؤرخ اليمن، وكذا الشعر الجاهلي ولوائح الجماعات العائدة من السبي البابلي إلى سلسلة جبال يهوذه بعد مرسوم الملك الفارسي قورش في 539 ق.م. كما جاءت في سفر نحميا وعزرا.
"فهل هي مصادفة أن القبائل التي وقعت في الأسر تحمل الأسماء نفسها كما في نصوص التوراة والهمداني والشعر الجاهلي؟ بينما لا تعرف فلسطين اسما واحدا مما ورد في القائمتين؟" ص. 60
كما يتطرق الكتاب للحملات الرومانية ويبين خلافا للمخيلة الإستشراقية كيف أن مسرح المعارك كان في بلاد اليهودية القديمة (سفر المكابيين) بغرض فرض السيطرة على سواحل البحر الأحمر في حين كانت بلاد الشام خاضعة من قبل للحكم الروماني وتنعم بشبه استقرار نتج عنه تقسيم إداري للمدن (جاء ذكر "إيلياء" في العهدة العمرية).
في ظل تحريم الحاخامات للجوء إلى النصوص التوراتية واعتماد القراءة الإنتقائية والترجمات المعتمدة رسميا تحاول الحركة الاستعمارية فرض تصورها والسيطرة على السرد التاريخي لأحداث الماضي، فيصبح إذن نقد البديهيات وإعادة الرواية واجبا: "إن المساهمة العلمية في تصحيح تاريخ فلسطين القديم، وتخليصه من الهرطقات والأحداث الإستشراقية الزائفة، يصبح اليوم واجبا أخلاقيا، يتوجب توسيع نطاق الاهتمام به، ذلك أن تحرير فلسطين لا يمكن أن يتحقق من دون تحرير صورتها التاريخية من الأوهام والمختلقات الأوروبية." ص. 100
ولفاضل الربيعي مؤلف "فلسطين المتخيلة: أرض التوراة في اليمن القديم" الصادر في 2007، وهو أمر منطقي إذا تذكرنا أن نبي الله موسى عندما هرب من مصر توجه إلى مدين (حيث النبي شعيب) وتكلم لغتهم وعمل هناك. وحين عبر ببني إسرائيل شق البحر الأحمر متخذا من أرض جنوب الجزيرة العربية مسكنا لهم. وكانت اليمن سكنى لليهود حتى خمسينيات القرن الماضي حين تم نقلهم إلى فلسطين المحتلة عبر سلطات الاحتلال البريطاني وبلغ عدد اليهود اليمنيين المهجرين نحو 60 ألفا.